آثار العولمة على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية
للمرأة في المغرب
" إني أرحب بالرياح اللواقح التي تمر بمحاذاة حقلي وبيتي دون أن تعصف بهما، لكني أرفض تلك الرياح التي تقتلع بيتي وحقلي وتجتث هويتي" ، والكلام للمهاتما غاندي، الذي يزج بي إلى طرح تساؤلات مفصلية تتمثل في :
* كيف هو وقع رياح العولمة العاتية على بنيات "المجتمع" المغربي الهشة ؟
* أنى ل " مجتمع" همه الأول والأخير البحث عن الخبز و تأمينه ، التصدي لانقضاضات العولمة الموسومة بالمتوحشة؟
* كيف سيصنع هذا المجتمع المتفاوت طبقيا مكانته في عالم الأفضلية فيه لم تعد فقط " لمن يملك" بل " لمن يعرف "، و" من لا يعرف" أضحى عبدا جاهلا في خدمة السيد " العارف" ليس بالله ولكن بمصالحه، والمالك لخزائن المعلومات والمعرفة؟
وقبلا، لنهدم بعضا من دعايات العولمة .
العولمة إخفاق أخلاقي
قدم صناع العولمة هذه الأخيرة في قوالب سيميائية خداعية تركن إلى رزنامة مفاهيمية من قبيل " التعايش – العدالة – التعاون – المساواة – الحوار – حقوق الإنسان..." ، واعدين بتحويل العالم إلى قرية صغيرة تسودها المحبة والسلام والأمن والطمأنينة... . لكن سرعان ما تكشف هذا اللغط الدعائي وكشرت العولمة عن أنيابها الرأسمالية المتوحشة، وكشف النقاب عن فخاخها. إذ أضحى العالم مسرحا من التطاحنات والحروب معانقا لأكذوبة السلام والمحبة، وسوقا تنهش فيه القوى الكبرى الدول الفقيرة، لتسقط دعاية المساواة والتعاون بغدو الأغنياء أكثر غنى والفقراء أكثر فقرا. وبالتالي يصبح فقراء العالم وهم الأكثرية – وفي ازدياد- تحت رحمة هيمنة السوق ذات الفكر الليبرالي المتغطرس، والتدخلات الأجنبية في رسم وتحريك دواليب السياسات الوطنية. وبذلك تعيدنا " العولمة الساعية إلى فرض النموذج الأمريكي القائم على العنف بشقيه الناعم والخشن" إلى أزمنة الاستعمار لكن بصياغات جديدة، تلعب فيه الشركات المتعددة الجنسيات، والفوق وطنية، والعابرة للقارات وكذا المؤسسات المالية العالمية الدور الرئيس في إحكام عملية السيطرة والاستغلال والنهب التي ترومها العولمة.
أما دعاية إشاعة فكر حقوق الإنسان وزرع هذه الثقافة كونيا فتسقط ذاتها بذاتها، إذ تقصف العولمة الإنسان من أجل الربح والرأسمال، بينما تسعى المنظومة الحقوقية، التي تؤسس بالإنسان وللإنسان، إلى حماية الإنسانية من أي نهش أو انتهاك. وبالتالي فالتعارض جذري بين المساعي الحقوقية والمرامي العولماتية، وتكفي الحروب المستعرة نيرانها في أصقاع المعمور دليلا على تناقض خطاب العولمة. وبفضل هذه الحروب تربعت تجارة السلاح على قمة لائحة التجارات المربحة، فالسلاح يحتاج إلى حرب لاستهلاكه، وليس مهما قضاء الأطفال والنساء والرجال، الشباب والكهول، بين نيران هذه الحروب، ف " الثمن يستحق ذلك" على حد التعبير الشهير لمادلين أولبرايت. وتلي تجارة الأسلحة تجارة المخدرات وتجارة الجنس التي تضرب عمق الكرامة الإنسانية خاصة في أوساط النساء والقاصرين، وحسب إحصائيات بريطانية أخيرة ينجز في اليوم الواحد ما يفوق مائتي موقع إباحي سهلة الولوج، إضافة إلى سوق الجريمة المنظمة التي تتجاوز عائداتها 1500 مليار دولار سنويا.
أما وهم القرية الكونية فلم يصل بنا إلى تحقيق التواصل أو الحوار، وإن كانت العولمة قد سهلت تقنيات الاتصال. وسهولة الاتصال لا تعني البتة سلاسة التواصل، التي تستدعي منظومة من القيم أبرزها احترام اختلاف الآخر لتحقيق قدر من التفاهم يصل بنا إلى بناء تواصل فعلي و فعال، ( أما سهولة سريان المعلومات وسيلانها بسرعة فائقة فلا يكفي ليتفاهم البشر فيما بينهم بشكل جيد) حسب الباحث الفرنسي دومينيك ولتون 1. وقد شدد هذا الأخير قائلا ( إن القرية الكونية ليست سوى حقيقة تقنية تنظر مشروعا سياسيا لأنه كلما قلصت التقنيات الفوارق الجغرافية، كلما احتلت الفوارق الثقافية مكانة بارزة، الأمر الذي يفرض إقامة مشروع إنساني حتى يتسنى للبشر التسامح فيما بينهم. وإلا فإن المعلومات والاتصال الذين ظلا لأزمنة طويلة عوامل حرية وتطور، سيضحيان في القرن الواحد والعشرين عوامل حرب) 2. وبذلك فإن التطور التقني لا يكفل بالضرورة تطورا على مستوى التواصل الإنساني. إذ نستطيع أن نمضي ساعات طويلة أمام شاشات الكومبيوتر نكتب الرسائل ونتصل افتراضيا، لكن دون أن نكون قادرين واقعيا على خلق علاقات إنسانية واجتماعية تشعرنا بالرضا والاكتفاء.
ومن الناحية الاقتصادية تدعي العولمة أنها زمن الإنماء الاقتصادي وازدهاره عبر تحرير الأسواق وخصخصة الاقتصادات من احتكارية الدولة، أو بالأصح من النظم الوطنية، والنتيجة إفقار اقتصادي وانتهاك للسيادة الوطنية للدول ( إذ لا يخفى على أحد التدخل السافر لصندوق النقد والبنك الدوليين في شؤون الدول الوطنية، والضمانات التي تطلبها لضمانة فوائد القروض والنصائح والاملاءات التي تفرضها على هذه الدول، بدءا مما يسمى بسياسات الانفتاح الاقتصادية والإصلاح الهيكلي وتحرير السوق وصولا إلى التدخل في أسعار السلع الأساسية.) 3 يكتب كريم أبو حلاوة، مضيفا ( وليس من باب التهويل القول بأن التفاوت العالمي في توزيع الثروة على مستوى الأشخاص أو الدول، قد وصل إلى حد غير مسبوق، فالثروة التي يملكها أصحاب نادي البلايين البالغ عددهم حوالي 450 عضوا تتجاوز الناتج الصافي المحلي للدول ذات الدخل المنخفض مجتمعة والتي تتضمن 56 في المائة من سكان العالم) 4.
ولعل هذا ما دفع بالباحث الفرنسي فيليب برير إلى وصف فقراء عالم العولمة ب "الأموات الأحياء" 5، في ظل سيطرة ما أسماه الألمانيان هانس بيتر مارتين وهارالد شومان ب
" ديكتاتورية السوق والعولمة"، التي تصير ديمقراطية فقط حين تتوجه لخدمة مصالح الخمس الثري، أما الأربعة أخماس من الفقراء فيصلون بكل مظاهر الخلل والتوترات الاجتماعية المتصاعدة في كل أصقاع المعمورة، من بطالة وجوع وفقر وتنامي الاحتجاجات والاعتصامات الجماهيرية، ثم انتشار المخدرات ونمو الجريمة وارتفاع نسب العنف، ونمو النزاعات الشوفينية، وتهميش الفئات المستضعفة 6....الأمر الذي يولد الحقد بين أفراد المجتمع الواحد جراء التصدعات والشروخ الطبقية واستمتاع الفئة القليلة بكد وعرق الفئات العريضة المهمشة. لذا فإن الخطر الاجتماعي الناجم عن انتصار تيار العولمة و
"الرأسمالية فوق- تحررية"حسب فليب برير، سيلقي بحوالي 80 في المائة من سكان العالم إلى قارعة الطريق يعانون البطالة والعوز المادي والروحي ويتحول قسم كبير منهم إلى فقراء يستحقون العون والمساعدة على طريقة برامج الإعانة أو عبر التبرعات والهيآت من أصحاب النوايا الطيبة والمحسنين متعددي الدوافع والأهداف.
إن عالم العولمة باختصار شديد عالم من الفوضى المنظمة أو الجنون المنظم، بينما كل شيء فيه يخضع لمنطق الربح والسيطرة وكنز رأس المال، فإن الشيئين الوحيدين المنظمين بإحكام مطلق في هذا العالم هما " الجريمة ورأس المال"، إذ يتخذ رأس المال من الجريمة ذرعا لضمان أرباحه وصيانة تراكماته والحفاظ على استمراريته وسيطرته على العالم والتحكم في مقدرات الدول الفقيرة، ( هناك عدد مجهول من الموتى المقتولين بسبب مليار من القرويين الفقراء طردوا من أراضيهم نتيجة المضاربات والأشغال الكبرى أو استحواذ السلطة، باسم دينامية " السوق الحر". ويعمل مليونا طفل على الأقل مجانا في المعامل، وعشرين مليون عبد " جنسي" في العالم.
إن العولمة الرأسمالية هي قبل كل شيء إخفاق أخلاقي ينهش الإنسانية ويرمي بها إلى مصاف الوحوش الذين يتفرسون بعضهم البعض حول فرائسهم) 7.
المخزنة والعولمة، توأمة القهر والاستغلال
والمغرب لا يشكل سوى كرة ضمن مجموع كرات طاولة بيلياردو العولمة، وبالتالي لا ينفلت من نهبها، ولا من آثارها الوخيمة على مجتمعه المنجرف، المصاب بالهزال وفقدان مناعة المقاومة. وما يعين العولمة على أداء مهامها الاستلابية على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والفكري برحابة وتلقائية في رحاب "المجتمع" المغربي، خضوعه لنظام استبدادي/ قهري منذ قرون، لعب فيه المخزن وخدام النظام دورا أساسيا لإحكام السيطرة على المجتمع. ومن بين السياسات المنتهجة للتحكم سياسات التفقير، والتجهيل وإمساك المجتمع دوما على الهامش، وإقصاءه من عوالم الملكية. وبالتالي إغناء الأغنياء وإفقار الفقراء، الأمر الذي خلق تواءما بين مصالح النظام السياسي القائم في المغرب، وبين مآرب العولمة.
ولعل تهليل كل من يوجد في السلطة " للعولمة و أساطيرها حول الازدهار الاقتصادي والاجتماعي" أبرز دليل على توأمة القهر والاستغلال التي تقصف المجتمع وتحوله إلى جماهير لاهثة من أجل الخبز فقط. فالنظام يريد أن يظل كما هو مستغلا متهربا من مسؤولياته باسم الخوصصة، والعولمة فرحة بسوق كالمغرب مفتوحة بلا شرط ولا قيد ، ملتزمة بكل وصايا المؤسسات المالية العالمية من " خصصة و تحرير للأسواق و استثمارات أجنبية ..."، بدعوى أن المغرب بلد التلاقحات الحضارية والانفتاح عبر التاريخ. ومن البديهي إذن أن تندمغ الإيالة الشريفة بملامح عصر العولمة حتى ترضى عنها القوى الكبرى. ومع ذلك لا تتوانى التقارير الدولية في فضح حقيقة الوضع القائم في هذا المغرب "المنفتح"، فتصنيف المؤشر العالمي للتنمية البشرية لسنة 2005 كشف عن ضعف كل البرامج الحكومية الخاصة بمحاربة الفقر و البطالة و التهميش والعوز الاجتماعي ومحو الأمية وتعميم التدريس، حيث احتل المغرب المرتبة 124 من بين 177 بلد شملهم التصنيف بعد كل من مصر والكابون، أما تقرير البنك الدولي فقد أماط اللثام على حقائق صافعة أكثر تكمن في انتقال نسبة السكان الذين يعيشون تحت عتبة الفقر المطلق بالمغرب من 6,6 في المائة إلى 11,7 في المائة داخل المناطق القروية، كما سيرتفع عدد الأسر المعوزة من 56,8 في المائة إلى 60,5 في المائة، وسيقفز المعدل الإجمالي للفقر على المستوى الوطني بدوره من 13,6 في المائة إلى 22,1 في المائة، مما يؤشر على تحقق توقع العديد من المحللين الوطنيين والأجانب بتحول المغرب إلى برازيل شمال إفريقيا خلال النصف الأول للقرن.
وبالرغم من كل الكوارث الإنسانية والاجتماعية و الاقتصادية التي تختزنها هذه الأرقام ، فإن خطابنا الرسمي مازال يعتبر العولمة غيثا سيقود المغاربة نحو الأفضل، غير مكترث بانعكاساتها على الفئات المسحوقة من الشعب. في هذا الإطار يؤكد الناشط الحقوقي السوري " سلامة كيلة" أن ( العولمة ليست مشكلة للأنظمة العربية لأنها أصبحت أنظمة تابعة في إطار الرأسمال العالمي. (...) فالأنظمة لا ترفض العولمة، الشعوب هي التي ترفضها لأن العولمة تؤدي إلى انهيار الوضع المعيشي للناس عبر انهيار اقتصادي شامل).
إن الفجوة الماكروسكوبية العميقة بين دول الشمال والجنوب انسكبت ميكروسكوبيا داخل المجتمعات الفقيرة، إذ منحت العولمة فرصا للاغتناء أكثر( للشرائح الغنية المتنفذة في دول العالم الثالث، بينما تظل الشرائح الفقيرة بعيدة كل البعد عن الاستفادة من العولمة بل تبقى تعاني من ويلاتها، وبهذا تسهم العولمة في تكريس الظلم و اللامساواة الاجتماعية) 8 .
ريثينكين كلوباليزيشن / بريت أولاخ ومايكل شيشتر).
المرأة، و يستمر الاضطهاد
هذا البؤس الاجتماعي يترسخ بين حنايا "المجتمع" المغربي بفضل مخزنته، ونهب العولمة لخيراته، وأيضا سيطرة الثقافة البطركية المتخلفة التي تزيد من وطأة الأوضاع المزرية المذلة على كاهل النساء، خاصة الفقيرات اللواتي يعانين من الأمية التامة أو نقص في التعليم، ومن عدم القدرة على التطبيب، والمعالجة والتغذية السليمة، ومن البطالة أو الاستغلال المشين في العمل كتدني الأجور، أو التحرش الجنسي، أو العمل في أوضاع سرية ومهينة، وكذا التعرض للعنف في الفضائين الخاص والعام.
إن الاضطهاد الطبقي والجنسي9 الذي مازالت ترزح تحت نيره غالبية النساء، جعل من معاناة هذه الفئة متعددة الأبعاد، إذ باتت المرأة إما إلى خادمة في بيتها، أو يد عاملة رخيصة في سوق العمل الرأسمالي. لقد حولت العولمة العمل الإنساني من قيمة إنسانية تعبر عن وجوده وتصون كرامته إلى أعمال شاقة، إلى معاناة شديدة بلا غاية أو نتيجة. غريب، وكأننا نشتغل لنصبح أكثر فقرا.
وتعاني النساء العاملات من مشاكل جمة في ميدان العمل ذي البنيات الهشة وغير المهيكلة ك(العاملات الزراعيات و خادمات البيوت والمشتغلات في نواد النسيج والمزارع و ضيعات الدواجن...إلخ)، من عدم الاعتراف القانوني، وبالتالي غياب الضمان الاجتماعي والحيف و التحرش الجنسي ثم عدم المساواة في الأجور، إضافة إلى استغلال فقرهن وضعفهن وحاجتهن للعمل والمال، والتضييق على حرياتهن النقابية، و إبعادهن عن مواقع اتخاذ القرار وعدم احترام خصوصياتهن في أماكن العمل ( عدم توفير أماكن للرضاعة – حمامات خاصة بهن...).
إن العمل بالنسبة للمرأة لا يمثل فقط معينا للاستقلال الاقتصادي، بل تحقيقا لكرامتها الإنسانية. وهنا ينطرح سؤال جوهري، لماذا لا تخصص الدولة أجرا لربات البيوت، وضمانا يحميهن تقديرا لأدوارهن، حتى لا تكون ربة البيت مجرد خادمة / عالة على زوجها، ولتفادي المشاكل النفسية والأسرية الناجمة عن هذه الوضعية. خاصة وأن النظام الاجتماعي الذي نحيي في كنفه يمجد دور المرأة في رعاية نواة المجتمع والحفاظ عليها، لكنه لا يعوضها مقابل هذه المهمة النبيلة، بل كثيرا ما ينكر وجودها وجهودها. وعمل المرأة بات يعني في مجتمعنا المأزوم الحصول على زوج، للارتباط العضوي بين مشكل البطالة وأزمة الزواج المسجلة بشكل صارخ في أوساط الشابات والشباب.
إن حق المرأة في العمل يعني ولوج كافة المجالات دون ميز أو قيد أو شرط، وتحقيق وجودها الإنساني عن طريق الاستقلال الاقتصادي ، لذا لابد من سن سياسية اجتماعية لا تمييزية تسمح للمرأة بالعمل دون قيد أو شرط، وتحمي حقوقها كعاملة، وتوفر مناخا يحمي كرامتها كامرأة وخصوصيتها...
على المستوى الصحي، نلفي مدخلين اثنين للمناقشة: التغذية والعلاج. فهل النساء العاملات والفقيرات إجمالا قادرات على الحصول على تغذية سليمة لهن ولأطفالهن؟ لا أعتقد، ولأسباب عدة أبرزها، الغلاء المعيشي الفاحش و الأجور الهزيلة التي لا تحقق أدنى مستويات العيش الكريم. وحتى الأغذية المعروضة اليوم أكثرها فاقد لقيمته الغذائية نتيجة استخدام المواد الكيماوية لتكثيف الإنتاج من أجل الربح السريع، والكسب السريع لا يتحقق في ظل الطابع المضارباتي المتوحش الذي زرعته العولمة، إلا عن طريق الغش. وخطة هدم صحة الشعوب الفقيرة مدخل لاستلابها ونهبها، بالإضافة إلى سلاح التجويع المعتمد داخليا وخارجيا.
والافتقار إلى تغذية سليمة والعمل في ظروف قاسية يؤدي بالضرورة إلى اعتلالات صحية ( فقر الدم- مختلف أنواع السرطانات...)، وبالتالي يصبح الولوج إلى العلاج أمرا صعبا، إن لم يكن مستحيلا، خاصة مع السياسة الصحية التي تنتهجها الدولة حاليا، والتي نسفت مجانية العلاج بمرسوم 1999، والحصول على الدواء. حيث عادت ظاهرة الولادة في البيوت خاصة في القرى والبوادي لعدم القدرة على ولوج المصحات حتى العمومية، وغياب المتابعة الصحية أثناء فترة الحمل، وما بعد الولادة بالنسبة للأم والوليد، الأمر الذي يفسر ارتفاع نسب وفاة المواليد والأمهات أثناء الولادة، أو بعدها بقليل. كما ارتفعت نسبة الأمراض السرطانية خاصة تلك المتعلقة بسرطان الثدي والرحم... . وبناء عليه فإن ضرب مجانية الصحة، و انعدام التغطية الصحية، وتوقيع الدولة على اتفاقيات التبادل الحرمع كل من أمريكا والاتحاد الأوربي الذي سيؤدي إلى استنساخ الأدوية محليا ومن ثمة ارتفاع أثمانها، إضافة إلى تبنيها برامج صحية مسطورة من قبل المؤسسات العالمية. إن ضرب مجانية العلاج يعني ببساطة الاعتداء على الحق في الصحة والتطبيب، ومن تم الاعتداء على الحق في الحياة.
ومن الناحية التعليمية يلاحظ عدم قدرة الأسر الفقيرة على دعم أبناءها و خاصة بناتها لمواصلة التعليم حتى في إطار المؤسسات العمومية، الأمر الذي يفسر تفشي الأمية والتعليم غير المكتمل بين أوساط النساء نتيجة الظروف الاجتماعية القاسية، أو التخلف الفكري لمحيطهن، وأيضا بعد المدارس بالنسبة للفتيات القرويات.
و الحقيقة أن التعليم بدوره يعكس تلك الفجوة الطبقية القائمة بين شرائح المجتمع من ناحية، ومن ناحية أخرى بين المؤسسات التعليمية العمومية والمؤسسات التعليمية الخاصة الوطنية والأجنبية. إذ أضحت الدولة تحت ضغط المؤسسات العالمية تشجع قطاع التعليم الخاص مقابل إهمال القطاع التعليمي المجاني العمومي إهمالا شديدا. ولا أدل على ذلك جهل المناهج التعليمية المتبناة في هذا القطاع، وأيضا تخلف آليات التلقين والتواصل، وتدهور الوضعية الاقتصادية لنساء ولرجال التعليم إضافة إلى هزالة الميزانية المرصودة لهذه المؤسسات تقدر ب"حوالي 25 مليار، منها 23 مليار مخصصة للأجور، و 1،4مليار لنفقات المقتنيات والمعدات وجلها موجه لتسيير مؤسسات التربية والتكوين الخاصة بالتكوين و التكوين المستمر".
ولقد بتنا نلاحظ اليوم تهافت الأسر القادرة ماديا وحتى المتوسطة على التعليم الخاص الأجنبي والوطني بدعوى جودة التعليم و ملاءمته للعصر، أما الفقراء فلا مكان لهم سوى طاولات المدارس العمومية، لذا ينبغي الدفاع عن مجانية التعليم وجودته، وإن كانت الدولة غير مهتمة فعليا بتجويد مناهجها لصالح خصخصة قطاع التعليم بشكل كلي. كما انه لا يوجد سعي حقيقي لمحاربة الأمية الفكرية، وحتى الجهود المبذولة لمحاربة الأمية الأبجدية مازالت محدودة، بالإضافة إلى عدم ملاءمة التخصصات لروح العصر، تعين على امتلاك مهارات تنضاف إلى ركام النظريات التي تدرس في الجامعات. و يسأل عن هذه الوضعية مهيكلو البنية التعليمية، وليس فقط الشباب الذي ينتقي من السلع المعروضة أمامه.
ومما يضمن للمرأة كرامتها الحصول على مس ...
للمرأة في المغرب
" إني أرحب بالرياح اللواقح التي تمر بمحاذاة حقلي وبيتي دون أن تعصف بهما، لكني أرفض تلك الرياح التي تقتلع بيتي وحقلي وتجتث هويتي" ، والكلام للمهاتما غاندي، الذي يزج بي إلى طرح تساؤلات مفصلية تتمثل في :
* كيف هو وقع رياح العولمة العاتية على بنيات "المجتمع" المغربي الهشة ؟
* أنى ل " مجتمع" همه الأول والأخير البحث عن الخبز و تأمينه ، التصدي لانقضاضات العولمة الموسومة بالمتوحشة؟
* كيف سيصنع هذا المجتمع المتفاوت طبقيا مكانته في عالم الأفضلية فيه لم تعد فقط " لمن يملك" بل " لمن يعرف "، و" من لا يعرف" أضحى عبدا جاهلا في خدمة السيد " العارف" ليس بالله ولكن بمصالحه، والمالك لخزائن المعلومات والمعرفة؟
وقبلا، لنهدم بعضا من دعايات العولمة .
العولمة إخفاق أخلاقي
قدم صناع العولمة هذه الأخيرة في قوالب سيميائية خداعية تركن إلى رزنامة مفاهيمية من قبيل " التعايش – العدالة – التعاون – المساواة – الحوار – حقوق الإنسان..." ، واعدين بتحويل العالم إلى قرية صغيرة تسودها المحبة والسلام والأمن والطمأنينة... . لكن سرعان ما تكشف هذا اللغط الدعائي وكشرت العولمة عن أنيابها الرأسمالية المتوحشة، وكشف النقاب عن فخاخها. إذ أضحى العالم مسرحا من التطاحنات والحروب معانقا لأكذوبة السلام والمحبة، وسوقا تنهش فيه القوى الكبرى الدول الفقيرة، لتسقط دعاية المساواة والتعاون بغدو الأغنياء أكثر غنى والفقراء أكثر فقرا. وبالتالي يصبح فقراء العالم وهم الأكثرية – وفي ازدياد- تحت رحمة هيمنة السوق ذات الفكر الليبرالي المتغطرس، والتدخلات الأجنبية في رسم وتحريك دواليب السياسات الوطنية. وبذلك تعيدنا " العولمة الساعية إلى فرض النموذج الأمريكي القائم على العنف بشقيه الناعم والخشن" إلى أزمنة الاستعمار لكن بصياغات جديدة، تلعب فيه الشركات المتعددة الجنسيات، والفوق وطنية، والعابرة للقارات وكذا المؤسسات المالية العالمية الدور الرئيس في إحكام عملية السيطرة والاستغلال والنهب التي ترومها العولمة.
أما دعاية إشاعة فكر حقوق الإنسان وزرع هذه الثقافة كونيا فتسقط ذاتها بذاتها، إذ تقصف العولمة الإنسان من أجل الربح والرأسمال، بينما تسعى المنظومة الحقوقية، التي تؤسس بالإنسان وللإنسان، إلى حماية الإنسانية من أي نهش أو انتهاك. وبالتالي فالتعارض جذري بين المساعي الحقوقية والمرامي العولماتية، وتكفي الحروب المستعرة نيرانها في أصقاع المعمور دليلا على تناقض خطاب العولمة. وبفضل هذه الحروب تربعت تجارة السلاح على قمة لائحة التجارات المربحة، فالسلاح يحتاج إلى حرب لاستهلاكه، وليس مهما قضاء الأطفال والنساء والرجال، الشباب والكهول، بين نيران هذه الحروب، ف " الثمن يستحق ذلك" على حد التعبير الشهير لمادلين أولبرايت. وتلي تجارة الأسلحة تجارة المخدرات وتجارة الجنس التي تضرب عمق الكرامة الإنسانية خاصة في أوساط النساء والقاصرين، وحسب إحصائيات بريطانية أخيرة ينجز في اليوم الواحد ما يفوق مائتي موقع إباحي سهلة الولوج، إضافة إلى سوق الجريمة المنظمة التي تتجاوز عائداتها 1500 مليار دولار سنويا.
أما وهم القرية الكونية فلم يصل بنا إلى تحقيق التواصل أو الحوار، وإن كانت العولمة قد سهلت تقنيات الاتصال. وسهولة الاتصال لا تعني البتة سلاسة التواصل، التي تستدعي منظومة من القيم أبرزها احترام اختلاف الآخر لتحقيق قدر من التفاهم يصل بنا إلى بناء تواصل فعلي و فعال، ( أما سهولة سريان المعلومات وسيلانها بسرعة فائقة فلا يكفي ليتفاهم البشر فيما بينهم بشكل جيد) حسب الباحث الفرنسي دومينيك ولتون 1. وقد شدد هذا الأخير قائلا ( إن القرية الكونية ليست سوى حقيقة تقنية تنظر مشروعا سياسيا لأنه كلما قلصت التقنيات الفوارق الجغرافية، كلما احتلت الفوارق الثقافية مكانة بارزة، الأمر الذي يفرض إقامة مشروع إنساني حتى يتسنى للبشر التسامح فيما بينهم. وإلا فإن المعلومات والاتصال الذين ظلا لأزمنة طويلة عوامل حرية وتطور، سيضحيان في القرن الواحد والعشرين عوامل حرب) 2. وبذلك فإن التطور التقني لا يكفل بالضرورة تطورا على مستوى التواصل الإنساني. إذ نستطيع أن نمضي ساعات طويلة أمام شاشات الكومبيوتر نكتب الرسائل ونتصل افتراضيا، لكن دون أن نكون قادرين واقعيا على خلق علاقات إنسانية واجتماعية تشعرنا بالرضا والاكتفاء.
ومن الناحية الاقتصادية تدعي العولمة أنها زمن الإنماء الاقتصادي وازدهاره عبر تحرير الأسواق وخصخصة الاقتصادات من احتكارية الدولة، أو بالأصح من النظم الوطنية، والنتيجة إفقار اقتصادي وانتهاك للسيادة الوطنية للدول ( إذ لا يخفى على أحد التدخل السافر لصندوق النقد والبنك الدوليين في شؤون الدول الوطنية، والضمانات التي تطلبها لضمانة فوائد القروض والنصائح والاملاءات التي تفرضها على هذه الدول، بدءا مما يسمى بسياسات الانفتاح الاقتصادية والإصلاح الهيكلي وتحرير السوق وصولا إلى التدخل في أسعار السلع الأساسية.) 3 يكتب كريم أبو حلاوة، مضيفا ( وليس من باب التهويل القول بأن التفاوت العالمي في توزيع الثروة على مستوى الأشخاص أو الدول، قد وصل إلى حد غير مسبوق، فالثروة التي يملكها أصحاب نادي البلايين البالغ عددهم حوالي 450 عضوا تتجاوز الناتج الصافي المحلي للدول ذات الدخل المنخفض مجتمعة والتي تتضمن 56 في المائة من سكان العالم) 4.
ولعل هذا ما دفع بالباحث الفرنسي فيليب برير إلى وصف فقراء عالم العولمة ب "الأموات الأحياء" 5، في ظل سيطرة ما أسماه الألمانيان هانس بيتر مارتين وهارالد شومان ب
" ديكتاتورية السوق والعولمة"، التي تصير ديمقراطية فقط حين تتوجه لخدمة مصالح الخمس الثري، أما الأربعة أخماس من الفقراء فيصلون بكل مظاهر الخلل والتوترات الاجتماعية المتصاعدة في كل أصقاع المعمورة، من بطالة وجوع وفقر وتنامي الاحتجاجات والاعتصامات الجماهيرية، ثم انتشار المخدرات ونمو الجريمة وارتفاع نسب العنف، ونمو النزاعات الشوفينية، وتهميش الفئات المستضعفة 6....الأمر الذي يولد الحقد بين أفراد المجتمع الواحد جراء التصدعات والشروخ الطبقية واستمتاع الفئة القليلة بكد وعرق الفئات العريضة المهمشة. لذا فإن الخطر الاجتماعي الناجم عن انتصار تيار العولمة و
"الرأسمالية فوق- تحررية"حسب فليب برير، سيلقي بحوالي 80 في المائة من سكان العالم إلى قارعة الطريق يعانون البطالة والعوز المادي والروحي ويتحول قسم كبير منهم إلى فقراء يستحقون العون والمساعدة على طريقة برامج الإعانة أو عبر التبرعات والهيآت من أصحاب النوايا الطيبة والمحسنين متعددي الدوافع والأهداف.
إن عالم العولمة باختصار شديد عالم من الفوضى المنظمة أو الجنون المنظم، بينما كل شيء فيه يخضع لمنطق الربح والسيطرة وكنز رأس المال، فإن الشيئين الوحيدين المنظمين بإحكام مطلق في هذا العالم هما " الجريمة ورأس المال"، إذ يتخذ رأس المال من الجريمة ذرعا لضمان أرباحه وصيانة تراكماته والحفاظ على استمراريته وسيطرته على العالم والتحكم في مقدرات الدول الفقيرة، ( هناك عدد مجهول من الموتى المقتولين بسبب مليار من القرويين الفقراء طردوا من أراضيهم نتيجة المضاربات والأشغال الكبرى أو استحواذ السلطة، باسم دينامية " السوق الحر". ويعمل مليونا طفل على الأقل مجانا في المعامل، وعشرين مليون عبد " جنسي" في العالم.
إن العولمة الرأسمالية هي قبل كل شيء إخفاق أخلاقي ينهش الإنسانية ويرمي بها إلى مصاف الوحوش الذين يتفرسون بعضهم البعض حول فرائسهم) 7.
المخزنة والعولمة، توأمة القهر والاستغلال
والمغرب لا يشكل سوى كرة ضمن مجموع كرات طاولة بيلياردو العولمة، وبالتالي لا ينفلت من نهبها، ولا من آثارها الوخيمة على مجتمعه المنجرف، المصاب بالهزال وفقدان مناعة المقاومة. وما يعين العولمة على أداء مهامها الاستلابية على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والفكري برحابة وتلقائية في رحاب "المجتمع" المغربي، خضوعه لنظام استبدادي/ قهري منذ قرون، لعب فيه المخزن وخدام النظام دورا أساسيا لإحكام السيطرة على المجتمع. ومن بين السياسات المنتهجة للتحكم سياسات التفقير، والتجهيل وإمساك المجتمع دوما على الهامش، وإقصاءه من عوالم الملكية. وبالتالي إغناء الأغنياء وإفقار الفقراء، الأمر الذي خلق تواءما بين مصالح النظام السياسي القائم في المغرب، وبين مآرب العولمة.
ولعل تهليل كل من يوجد في السلطة " للعولمة و أساطيرها حول الازدهار الاقتصادي والاجتماعي" أبرز دليل على توأمة القهر والاستغلال التي تقصف المجتمع وتحوله إلى جماهير لاهثة من أجل الخبز فقط. فالنظام يريد أن يظل كما هو مستغلا متهربا من مسؤولياته باسم الخوصصة، والعولمة فرحة بسوق كالمغرب مفتوحة بلا شرط ولا قيد ، ملتزمة بكل وصايا المؤسسات المالية العالمية من " خصصة و تحرير للأسواق و استثمارات أجنبية ..."، بدعوى أن المغرب بلد التلاقحات الحضارية والانفتاح عبر التاريخ. ومن البديهي إذن أن تندمغ الإيالة الشريفة بملامح عصر العولمة حتى ترضى عنها القوى الكبرى. ومع ذلك لا تتوانى التقارير الدولية في فضح حقيقة الوضع القائم في هذا المغرب "المنفتح"، فتصنيف المؤشر العالمي للتنمية البشرية لسنة 2005 كشف عن ضعف كل البرامج الحكومية الخاصة بمحاربة الفقر و البطالة و التهميش والعوز الاجتماعي ومحو الأمية وتعميم التدريس، حيث احتل المغرب المرتبة 124 من بين 177 بلد شملهم التصنيف بعد كل من مصر والكابون، أما تقرير البنك الدولي فقد أماط اللثام على حقائق صافعة أكثر تكمن في انتقال نسبة السكان الذين يعيشون تحت عتبة الفقر المطلق بالمغرب من 6,6 في المائة إلى 11,7 في المائة داخل المناطق القروية، كما سيرتفع عدد الأسر المعوزة من 56,8 في المائة إلى 60,5 في المائة، وسيقفز المعدل الإجمالي للفقر على المستوى الوطني بدوره من 13,6 في المائة إلى 22,1 في المائة، مما يؤشر على تحقق توقع العديد من المحللين الوطنيين والأجانب بتحول المغرب إلى برازيل شمال إفريقيا خلال النصف الأول للقرن.
وبالرغم من كل الكوارث الإنسانية والاجتماعية و الاقتصادية التي تختزنها هذه الأرقام ، فإن خطابنا الرسمي مازال يعتبر العولمة غيثا سيقود المغاربة نحو الأفضل، غير مكترث بانعكاساتها على الفئات المسحوقة من الشعب. في هذا الإطار يؤكد الناشط الحقوقي السوري " سلامة كيلة" أن ( العولمة ليست مشكلة للأنظمة العربية لأنها أصبحت أنظمة تابعة في إطار الرأسمال العالمي. (...) فالأنظمة لا ترفض العولمة، الشعوب هي التي ترفضها لأن العولمة تؤدي إلى انهيار الوضع المعيشي للناس عبر انهيار اقتصادي شامل).
إن الفجوة الماكروسكوبية العميقة بين دول الشمال والجنوب انسكبت ميكروسكوبيا داخل المجتمعات الفقيرة، إذ منحت العولمة فرصا للاغتناء أكثر( للشرائح الغنية المتنفذة في دول العالم الثالث، بينما تظل الشرائح الفقيرة بعيدة كل البعد عن الاستفادة من العولمة بل تبقى تعاني من ويلاتها، وبهذا تسهم العولمة في تكريس الظلم و اللامساواة الاجتماعية) 8 .
ريثينكين كلوباليزيشن / بريت أولاخ ومايكل شيشتر).
المرأة، و يستمر الاضطهاد
هذا البؤس الاجتماعي يترسخ بين حنايا "المجتمع" المغربي بفضل مخزنته، ونهب العولمة لخيراته، وأيضا سيطرة الثقافة البطركية المتخلفة التي تزيد من وطأة الأوضاع المزرية المذلة على كاهل النساء، خاصة الفقيرات اللواتي يعانين من الأمية التامة أو نقص في التعليم، ومن عدم القدرة على التطبيب، والمعالجة والتغذية السليمة، ومن البطالة أو الاستغلال المشين في العمل كتدني الأجور، أو التحرش الجنسي، أو العمل في أوضاع سرية ومهينة، وكذا التعرض للعنف في الفضائين الخاص والعام.
إن الاضطهاد الطبقي والجنسي9 الذي مازالت ترزح تحت نيره غالبية النساء، جعل من معاناة هذه الفئة متعددة الأبعاد، إذ باتت المرأة إما إلى خادمة في بيتها، أو يد عاملة رخيصة في سوق العمل الرأسمالي. لقد حولت العولمة العمل الإنساني من قيمة إنسانية تعبر عن وجوده وتصون كرامته إلى أعمال شاقة، إلى معاناة شديدة بلا غاية أو نتيجة. غريب، وكأننا نشتغل لنصبح أكثر فقرا.
وتعاني النساء العاملات من مشاكل جمة في ميدان العمل ذي البنيات الهشة وغير المهيكلة ك(العاملات الزراعيات و خادمات البيوت والمشتغلات في نواد النسيج والمزارع و ضيعات الدواجن...إلخ)، من عدم الاعتراف القانوني، وبالتالي غياب الضمان الاجتماعي والحيف و التحرش الجنسي ثم عدم المساواة في الأجور، إضافة إلى استغلال فقرهن وضعفهن وحاجتهن للعمل والمال، والتضييق على حرياتهن النقابية، و إبعادهن عن مواقع اتخاذ القرار وعدم احترام خصوصياتهن في أماكن العمل ( عدم توفير أماكن للرضاعة – حمامات خاصة بهن...).
إن العمل بالنسبة للمرأة لا يمثل فقط معينا للاستقلال الاقتصادي، بل تحقيقا لكرامتها الإنسانية. وهنا ينطرح سؤال جوهري، لماذا لا تخصص الدولة أجرا لربات البيوت، وضمانا يحميهن تقديرا لأدوارهن، حتى لا تكون ربة البيت مجرد خادمة / عالة على زوجها، ولتفادي المشاكل النفسية والأسرية الناجمة عن هذه الوضعية. خاصة وأن النظام الاجتماعي الذي نحيي في كنفه يمجد دور المرأة في رعاية نواة المجتمع والحفاظ عليها، لكنه لا يعوضها مقابل هذه المهمة النبيلة، بل كثيرا ما ينكر وجودها وجهودها. وعمل المرأة بات يعني في مجتمعنا المأزوم الحصول على زوج، للارتباط العضوي بين مشكل البطالة وأزمة الزواج المسجلة بشكل صارخ في أوساط الشابات والشباب.
إن حق المرأة في العمل يعني ولوج كافة المجالات دون ميز أو قيد أو شرط، وتحقيق وجودها الإنساني عن طريق الاستقلال الاقتصادي ، لذا لابد من سن سياسية اجتماعية لا تمييزية تسمح للمرأة بالعمل دون قيد أو شرط، وتحمي حقوقها كعاملة، وتوفر مناخا يحمي كرامتها كامرأة وخصوصيتها...
على المستوى الصحي، نلفي مدخلين اثنين للمناقشة: التغذية والعلاج. فهل النساء العاملات والفقيرات إجمالا قادرات على الحصول على تغذية سليمة لهن ولأطفالهن؟ لا أعتقد، ولأسباب عدة أبرزها، الغلاء المعيشي الفاحش و الأجور الهزيلة التي لا تحقق أدنى مستويات العيش الكريم. وحتى الأغذية المعروضة اليوم أكثرها فاقد لقيمته الغذائية نتيجة استخدام المواد الكيماوية لتكثيف الإنتاج من أجل الربح السريع، والكسب السريع لا يتحقق في ظل الطابع المضارباتي المتوحش الذي زرعته العولمة، إلا عن طريق الغش. وخطة هدم صحة الشعوب الفقيرة مدخل لاستلابها ونهبها، بالإضافة إلى سلاح التجويع المعتمد داخليا وخارجيا.
والافتقار إلى تغذية سليمة والعمل في ظروف قاسية يؤدي بالضرورة إلى اعتلالات صحية ( فقر الدم- مختلف أنواع السرطانات...)، وبالتالي يصبح الولوج إلى العلاج أمرا صعبا، إن لم يكن مستحيلا، خاصة مع السياسة الصحية التي تنتهجها الدولة حاليا، والتي نسفت مجانية العلاج بمرسوم 1999، والحصول على الدواء. حيث عادت ظاهرة الولادة في البيوت خاصة في القرى والبوادي لعدم القدرة على ولوج المصحات حتى العمومية، وغياب المتابعة الصحية أثناء فترة الحمل، وما بعد الولادة بالنسبة للأم والوليد، الأمر الذي يفسر ارتفاع نسب وفاة المواليد والأمهات أثناء الولادة، أو بعدها بقليل. كما ارتفعت نسبة الأمراض السرطانية خاصة تلك المتعلقة بسرطان الثدي والرحم... . وبناء عليه فإن ضرب مجانية الصحة، و انعدام التغطية الصحية، وتوقيع الدولة على اتفاقيات التبادل الحرمع كل من أمريكا والاتحاد الأوربي الذي سيؤدي إلى استنساخ الأدوية محليا ومن ثمة ارتفاع أثمانها، إضافة إلى تبنيها برامج صحية مسطورة من قبل المؤسسات العالمية. إن ضرب مجانية العلاج يعني ببساطة الاعتداء على الحق في الصحة والتطبيب، ومن تم الاعتداء على الحق في الحياة.
ومن الناحية التعليمية يلاحظ عدم قدرة الأسر الفقيرة على دعم أبناءها و خاصة بناتها لمواصلة التعليم حتى في إطار المؤسسات العمومية، الأمر الذي يفسر تفشي الأمية والتعليم غير المكتمل بين أوساط النساء نتيجة الظروف الاجتماعية القاسية، أو التخلف الفكري لمحيطهن، وأيضا بعد المدارس بالنسبة للفتيات القرويات.
و الحقيقة أن التعليم بدوره يعكس تلك الفجوة الطبقية القائمة بين شرائح المجتمع من ناحية، ومن ناحية أخرى بين المؤسسات التعليمية العمومية والمؤسسات التعليمية الخاصة الوطنية والأجنبية. إذ أضحت الدولة تحت ضغط المؤسسات العالمية تشجع قطاع التعليم الخاص مقابل إهمال القطاع التعليمي المجاني العمومي إهمالا شديدا. ولا أدل على ذلك جهل المناهج التعليمية المتبناة في هذا القطاع، وأيضا تخلف آليات التلقين والتواصل، وتدهور الوضعية الاقتصادية لنساء ولرجال التعليم إضافة إلى هزالة الميزانية المرصودة لهذه المؤسسات تقدر ب"حوالي 25 مليار، منها 23 مليار مخصصة للأجور، و 1،4مليار لنفقات المقتنيات والمعدات وجلها موجه لتسيير مؤسسات التربية والتكوين الخاصة بالتكوين و التكوين المستمر".
ولقد بتنا نلاحظ اليوم تهافت الأسر القادرة ماديا وحتى المتوسطة على التعليم الخاص الأجنبي والوطني بدعوى جودة التعليم و ملاءمته للعصر، أما الفقراء فلا مكان لهم سوى طاولات المدارس العمومية، لذا ينبغي الدفاع عن مجانية التعليم وجودته، وإن كانت الدولة غير مهتمة فعليا بتجويد مناهجها لصالح خصخصة قطاع التعليم بشكل كلي. كما انه لا يوجد سعي حقيقي لمحاربة الأمية الفكرية، وحتى الجهود المبذولة لمحاربة الأمية الأبجدية مازالت محدودة، بالإضافة إلى عدم ملاءمة التخصصات لروح العصر، تعين على امتلاك مهارات تنضاف إلى ركام النظريات التي تدرس في الجامعات. و يسأل عن هذه الوضعية مهيكلو البنية التعليمية، وليس فقط الشباب الذي ينتقي من السلع المعروضة أمامه.
ومما يضمن للمرأة كرامتها الحصول على مس ...
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire